Friday 4 October 2013

انفوشنا

طلع الفجر عليه وهو مازال يجلس فوق مكتبه بلا عمل مهم، يعبث بالأوراق يميناً و يساراً، يشغل بعض الأغانى الراقصة فيقوم و يرقص وحيداً ما تيسر له من التانجو أو الراب ! ثم ينظر إلى الساعة فيكتشف أن الساعة قد هزمته، و ان الوقت قد ضاع فى عبث دون جدوى، فيعود إلى المكتب من جديد و ينكب على ما بين يديه من قصص و أفلام، يمسك بأبطاله احياناً, و يمسكون هم به احياناً آخرى، يكتئب معهم و يفرح لهم، ثم يتساءل "وانا المفروض بعد كل ده افضل انسان طبيعى؟"
ثم يستجيب الى صوت فى مخيلته يملأ جسده و ما حوله من سكون، صداه هو موسيقى تصويرية لليلة حزن و ذكرى إبداع يحياها فى بيته العتيق بالأنفوشى، هذا الصوت الذى تخيله لناقد مرموق قرأ بعض من اعماله فسلخه عليها سلخاً، تاه بعدها بين الشك و الفن، و اصبح السؤال المسيطر على ذهنه "هل انا استحق؟ هل انا موهوب؟" جاء له الصوت فى هذه الليلة ناقداً موقف البطل الذى ظل مكانه و لم يشارك فى الثورة و تركها تمر تحت منزله مرور السحاب.
الصوت : " اسلوب غير منطقى..كتابة غير محكمة..أفعال غير مبررة, فكيف بعد ان ينتظر البطل أن تقوم فى اهله ثورة، لا يشارك بها؟ هل من الممكن ان يتزوج الرجل من قتاته ثم يتركها تنام فى الفراش وحدها؟ "
فيلقى بقلمه و يعود بظهره على كرسيه الخشبى الهرِم، و يستغرب على الناقد المخضرم الذى لا يدرى ما بين يديه من شخصية مركبة متضاربة الأحاسيس، فهل يريد أن يخرج البطل من بين سطور القصة ليقول له "انا ملخبط !"
أدرك حينها انه مازال مريضاً بنزوة الفشل التى تجعله من حين لآخر يستحضر الماضى عياناً، كل الفشل عاطفى..عملى ...سياسى، كل الحسابات الخاطئة تجتمع الآن فوق رأسه كزبانية جهنم، و يتمنى لو حن عليه الزمان و نظر إلى وجهه (شاب الملامح عجوز التقاسيم) نظرة و أعاده إلى نقطة البداية، قبل ترك حبيبته له لأنه ترك عمله، قبل ترك المحاسبة و تفرغه للكتابة، قبل تركه منزل الأسرة بميامى و استئجاره لحجرة بالأنفوشى، قبل الثورة....قبل الثورة!
ليس الفجر فقط هو الذى حضر، بل حضر الصبح ايضاً و انصرف و سطعت الشمس بيضاء تمارس الحياء الشتوى ببراعة الأنثى ، و صلى الناس الجمعة و انتشروا فى الأرض، خرج من جحره إلى العالم يبحث عن ثياب بديلة، فقد قرر الروائى ان يتجه الى السينما بأهبط ما لديه من أفكار، الحلم الرأسمالى هزم الضمير، فلاشك ان المعدة تربح فى صراع الرأس و الفم، فقد حارب من أجل الفكر أعوام لم ير فيها من حصاد غير سباب النقاد، فقرر أن يعقد مع السباب صفقة، "مادام كده كده هاتشتم ، اتشتم و انا شبعان احسن، الجوع و البهدلة نشفونى بس مش على نضيف."
ثيابه القديمة لا تصلح لمقابلة المنتج السينمائى رخيص الفكر..ضخم الأرباح...عريض الجمهور، "و ما دام كده كده اتقال على اعمالى انها مليانة دراما على الفاضى زى افلام المقاولات لمجرد ان شخص غبى ما فهماش، انا بقى هوريكو شغل المقاولات على حق يا آل النقد الهدام"
فبعد ان كان سائقاً لقطار الإبداع، أصبح مهروساً تحت عجلات قطار الإسفاف، بسبب نقد جارح لم يحتمله عناء فنان.
كلما مر بطريق وجده خاوياً كأن الأرض ابتلعت ما عليها من بشر، لا يسمع سوى ضجيج مظاهرة الجمعة التى أعتادها المواطن المصرى، تركيزه شديد فى لباسه الجديد، يجب ان يشمل التغيير كل شئ، دخل المحل فوجد حواس البائع جميعها مفتوحة على مصرعيها..عيناه..شفتاه..حتى انفه يسيل، يحدق النظر بشاشة التليفزيون كمن يشاهد مصارعة الثيران عن قرب، لم يكترث الروائى فالبتأكيد البائع يتابع البث الحى لمليونية اليوم، انتقى بنطالاً و قميصاً وهو سعيد بعدم ملاصقة البائع له و هو يتفقد المعروضات، دخل غرفة القياس حاملاً حُلته الجديدة التى بدأ فعلاً بالإرتياح لمنظره فيها، و هو يسمع صوت التليفزيون حتى بدأ فى الإصغاء له و التركيزمعه... "اتصال هاتفى من رجل الأعمال و الفيادى بالحزب الوطنى م.أ.ع"
"اتصال من الفنانة س. أ لتعلق على مظاهرات اليوم"
ثم يخرج من غرفة القياس ليرى البائع يهتف "الشعب يريد اسقاط النظام "
ثم يترك البائع المحل منضماً لمسيرة تهتف "يا سوزان قولى للبيه كيلو اللحمة بقى بجنيه"
يالها من لحظة تسيح فيها الأحداث و الشخوص، أين الذاكرة؟ أين الوطن؟ "فين الموبايل؟"
ثم يكتشف ان الشبكة مقطوعة ، فيسرع من المحل مرتدياً قميصه الجديد فقط ! و بلباسه الداخلى من أسفل، يجرى فى شتاء الإسكندرية و جسمه متشبع بحرارة اسوان الصيفية، يجرى كمن يريد أن ينقذ روح من الموت أو يخرج وليد إلى الحياة !
ثم وقف امام مظاهرة حاشدة و هويصرخ "ارجعوا..ارجعوا مش عايزنها"
ثم يخرج عليه احد المتظاهرين و يهتف امامه "يا اهلينا انضموا لينا"
-"و انت مالك و مالهم؟ خلى اللى مكانه مكانه..اللى لابس لابس و اللى قالع قالع...سيبوا الانفوشى فى حاله"
-"احنا كلنا ولاد الانفوشى و لازم نغيره ..ده انفوشنا مش انفوشك و لا انفوشى"
فيعلوا الهتاف من الخلفية وراء المتظاهر "ده انفوشنا مش انفوشك و لا انفوشى"
بينما يجرى الروائى نصف عارى حتى يقع بين ارجل المتظاهرين و تدهسه الاحذية بلا رحمة.

No comments:

Post a Comment