Thursday, 8 November 2012

عين الجمل


جمعهما نوع فريد من الصداقة, و هو صداقة الأحلام الضائعة, فالواقع لا يمكن تغيره و الإمكانيات قليلة, و الطاقة واسعة, هكذا مضت بهما سنوات ما بين اليأس و الأمل, فيهما ترى جيلاً كاملاً من شباب مصر ممن يعانوا الفقر, و البطالة و الأحلام التى سرقها نظام سابق .
عندما صارحه صديقه برغبته فى إكمال الصداقة بالنسب, لم يتصرف كأى أخ يريد لأخته الزوج اللائق مادياً فى هذا المجتمع الغير لائق آدمياً, بل وافق على الفور و اقنع اخته التى كانت ما بين القبول: الذى يعنى الإحتمال و الصبر على مواجهة الحياة القاسية, و الرفض لتحقيق احلام فطرتها فى الزواج الهادئ من رجل يقدر على تلبية إحتياجاتها المادية, وتمت الخطبة حتى بلا خاتم, فما اشد فرحته فى هذا اليوم الذى سماه "يوم الإنتصار" فقد إنتصرت الاحلام على الواقع المُحبِط, و إرتبطت اخته بصديقه الذى يشبهه فى الحال و الطموح رغم إعتراض الاسرة و محاولاته الفاشلة معهم بإقناعهم ان صاحبه "راجل".. ان الحب هو اساس الزواج..."شوفو إعلان الشيكولاته, مادام جاب الملبس يبقى بينا ع المأذون, افتحوها فى وش الشباب ربنا يحسن ختامكم"  , و لكن لا بأس من إعتراضهم إن كان المجتمع كله يعترض على احلامهما البسيطة فى الحياة.

تقلبت بمصر الآيام و تبدلت بهما الأعمال أيضاً, فحلم الوظيفة الثابتة و إن كان الراتب لا يغنى من جوع, هو حلم يستحق المغامرة, ما بين مشروع كمبيوتر يخسر, و مساعد صيدلى, الى محل موبايل ضعيف الإمكانيات وصل حالهما على مدار اربعة اعوام من الصداقة و النسب, ضاعت خلالها معظم الاحلام, حلمه فى ان يكون صحفى شيهر, و حلم صديقه فى ان يكون شاعر سياسى, حتى قامت الثورة التى تفجرت فيها كل الطاقات, و صحت الاحلام لتواجه الرصاص, و فى الآيام الاولى من إعتصام ثورة يناير بالتحرير, تعرف الصديقان على مراسلة اخبار فرنسية, و ابدت اهتماماً شديداً بهما و بالتحدث إليهما و نقل رأيهما عبر الصحيفة التى تعمل بها, حتى جاء اليوم الذى لا يُنسى, يوم أربعاء موقعة الجمل, التى رقصت فيها الخيول و الجمال على صوت تأوهات و نزيف عيون ثوارنا البواسل, فقد اصيب الشاب الذى حلم قديماً ان يكون صحفى, فى إحدى عينيه إثر حجارة طائشة فى زحام المعركة, و لكنه لم يكترث للإصابة و ظل يواجه و يحمى ميدان ثورته و احلامه, حتى ذهب الى المستشفى بعد تنحى الرئيس يوم ان ظن انه اتم ثورته, و لكنه اكتشف ان الإصابة تحولت لعاهة ! و اصبح رسمياً من مصابى ثورة يناير, الشئ الذى اعتبره فخراً و وساماً على صدره, آمال اسرته فى علاجه كانت وراء كل سعى لهم فى البحث عن اثرياء الثورة الذين تبرعوا بتخفيض ضرائبهم لصالح علاج مصابى الثورة, طرق كل الابواب , الجمعيات الاهلية, الكيانات الثورية: من إئتلافات و جماعات, و مرشحى المجالس التشريعية, حتى اصبحت يومياته يمكن ان تجمع فى كتاب تحت عنوان "يوميات مصاب مصرى", و لم تكن هذه الفكرة غائبة عن ذهن الصديقة المراسلة الفرنسية, فاستغلت الموقف بحصولها على مادة صحفية دسمة حولتها من خانة مراسلة الى صحفية و ناشطة فى مجال حقوق الإنسان, و بالطبع كان الصديق المقرب و الصهر هو مصدر نقل الاخبار بالنسبة لها بعد ان ساءت الحالة النفسية للثائر المصاب من مشاهد المرحلة الإنتقالية من تصارع على السلطة و المصالح, و قبضة المجلس العسكرى التى فاقت قبضة نظام مبارك من قمع و ظلم, و ذات يوم من تلك الآيام المظلم لونها, اتصل بالمصاب نسيبه يدعوه على حفلة عيد ميلاد المراسلة الفرنسية فى بيتها, رفض الثائر الامر فى البداية, حتى اقنعه نسيبه ان الحفل سيضم ناشطين حقوقين و صحفيين كبار من جميع الجنسيات , و هذا من الممكن ان يساهم فى إيجاد علاجاً لإيعاقته, فذهبا سوياً الى الحفل, و ببصره الضعيف و بسمعه الذى اشتدت قوته بعد إيعاقته, ايقن كؤوس الخمر و مشاهد اللهو و العبث فى المكان, فتصرف الرجل بفطرته الشرقية المتدينة و انسحب من المكان غاضباً, لا على العبث الذى يملأ المكان, و لكن غضب من صديقه و صهره الذى لم يكن كذلك, و إن كان يعرف انه ليس بالتقى الورع, و لكن كان له شئ من الأعراف و التقاليد يحافظ عليه, و عندما ساله صهره عن سبب تركه للحفل او على حد تعبيره "مشيت ليه من قعدة الثوار؟", فانفجر غضب المصاب من كل شئ فى هذه اللحظة و صاح: "ملعون ابو الثورة اللى تعمل كده!! ملعون ابوك لو سميت دول ثوار! إحنا الثوار..إحنا المصابين..إحنا الثوار", غضب منه صهره و عاقبه بأن تركه يمشى وحيداً بين ظلام عين الجمل و ظلام الطريق, و عاد هو الى الفرنسية و حفلها العابث.
و بعد ثلاثة آيام اتصلت به خطيبته تدعوه لحضور حفل لتكريم المصابين, و لكنه رفض تماماً ان يجتمع بصديقة ثانيةً, و فى نفس الليلة و لكن فى وقت متأخر منها, إتصلت به الفرنسية لتعرف تطورات الوضع لأنها علمت انه تم الإعتداء على الحفل من عدد لا يهان من البلطجية من حملة الاسلحة البيضاء, و على الفور لم يتأخر على طلب الفرنسية و ذهب بملابس البيت الى مقر الحفل, معللاً انه يريد ان يطمئن على خطيبته فى هذا الوضع الغير آمن, ناكراً دوافعه العاطفية تجاه "المزة" الفرنسية, و بمجرد ان وصل الى مقر الحفل وجد عساكر الجيش انتشرت فى المكان تقبض على الكثيرين يتهمة البلطجة, بعض المقبوض عليهم اُفرِج عنهم فى نفس الليلة و البعض الآخر تم حبسه بتهمة البلطجة, و كان هو من المعتقلين حيث ان ملابس البيت ذات القميص المقطوع و البنطلون الكستور, فضلاً عن شعره الذى لم يرى الحلاق منذ اشهر عديدة, كل هذا الصق به تهمة البلطجة إلصاقاً, و اصبح من المحاكمين عسكرياً, و طبعاً السبب الذى يعرفه الجميع انه ذهب لرؤية صديقه و خطيبته, لا لإشعال مقالات الفرنسية بثرثرة مصرية لن تفيد الوضع المصرى بشئ, و كانت هذه المحاكمة هى فاتحة الخير عليه, عاد إليه صديقه بأخباره و تفاصيل رحلة علاجه, تعرف على الكثير من المعتقلين و عرف الكثير من التفاصيل السياسية و إنتهاكات المجلس العسكرى, و بالطبع كل هذا اصبح فى يد الفرنسية التى كانت تزوره فى جميع اوقات الزيارة, و بعد عفو عن بعض المعتقلين خرج ليجد نفسه بطلاً على صفحات المواقع الإلكترونية و فى عين صديقه, فى عين الجمل التى صبرت قبل الثورة و مازالت تصبر حتى الآن, فلم يصبح المعتقل "الناشط" السياسى بحاجة لصديقه المصاب ليقترب من الفرنسية فأصبح هو بحد ذاته مصدراً لها, حتى اقام معها علاقة صمم هوعلى تحويلها الى زواج عرفى "بما لا يخالف شرع الله", فضحكت بإبتسامتها الباريسية الساحرة و اخبرته انها لا تدين بدين من الاساس و لا تريد ورقة الزواج هذه, و لكنه صمم على الزواج لشئ ربما فى بقايا فطرته, و مرت آيام البعد عن الماضى و الإنخراط فى الاخبار السياسية لتعبئة الجريدة( التى لم يقرأها ابداً) التى تعمل بها زوجته الفرنسية, و بالطبع ترك صديقه و خطيبته التى لم تجد حتى خاتم لترسله إلى منزل عائلته عند فسخ الخطبة, و ظل هو يلهو بالكلام عبر المواقع الإلكترونية حتى استيقظ يوماً و لم يجد زوجته الفرنسية بالمنزل, و وجد جواب منها يحمل نسختها من عقد الزواج العرفى, تخبره انها سافرت لدعم نشطاء سوريا, و لن تعود الى مصر مجدداً , و تركت له مئة دولار كمكافأة نهاية خدمة, فالوضع فى سوريا اكثر سخونة من مصر !
و مازالت عين الجمل تراقب فى صمت و ذهول....
عين الجمل

No comments:

Post a Comment