Wednesday, 6 March 2013

ابن حنت

"حنت" تعنى بالفرعونية فن أو صنعة, "ابن حنت" مصطلح بالعامية المصرية يطلق على كل من يرى الناس فيه المهارة و الذكاء, هذه قصة "ابن حنت"

عندما نضع أيدينا فى النفايات, ثم نشكو من رائحة الأصابع !
 كنت دائماً ارى ان لوم النفس على النفس هو الأصعب و الأشقى سبيلاً, و لكن بعد هذا العمر الباهت وجدت ما هو اصعب, و هو ان تتمنى ان تلوم نفسك لتجد شئ ما..اى شئ, ربما ثمة لفافة تبغ تلومها على إهدار صدرك فى الالم, و يا ليتها هينة كأمر اللفافة.
اشم اصابعى فى اليوم ألف مرة, لا اعبأ بما عليها من بقايا العطر او الصابون, و لكن اشم رائحة الذكرى و التجربة, اعود الى الآيام التى صنعت هذا الكيان الخارجى, الذى يراه الناس كناطحة سحاب شامخة لامعة بزجاج نوافذها الفاخر, و لا احد يعلم ما بداخل هذا الكيان, كم اتمنى ان تعود بى الآيام إلى الإسكندرية حيث نشأت و لعبت مع أبناء زمنى, أعود لأجد طعام من يد أمى و من مال أبى, لا اعلم ما قدر تعب أمى؟ و لا كيف يأتى أبى بالمال؟ كل ما يشغل تفكيرى وقتها: هو كيف "أحبس" بكوب من الشاى الساخن تفوح منه رائحة النعناع, اشرب  و انظر إلى برج الحمام المقابل لمنزلنا الهادئ, ارى فى الحمام حب و غيرة و جمال, و ياليت العمر لم يمر بى!
تعلمت الهندسة ليقال لى "يا باشمهندس" ليس اكثر من تحقيق حلم لوالدى و رغبة لأمى, لم أعرف شئ عن الجنس الآخر حتى تخرجت من الجامعة, كنت خجولاً, نشأت فى منزل تاجه العفة, لم يكن لوالدى لحية, و لا لأمى غطاء رأس, و لكن ما أحرصهما على تقوى الله !
كنت ادرس و احصل فقط, كنت الاول على دفعتى حتى تم تعينى معيد بنفس الجامعة التى درست بها, كنت لا أرى فى الدنيا مشقة غير الإمتحانات و المذاكرة, حتى اننى حدثت نفسى ذات مرة و تساءلت : "انا لو كنت اعرف ان الدنيا دى فيها مذاكرة و إمتحانات ما كنتش جيت اصلاَ", و لكننا للآسف لا نختار قدومنا إلى الحياة و لا نختار رحيلنا منها.
"سبعينات مصر" هى فترة تكوين الذات بالنسبة لى, و ياليتنى بحثت عن ذاتى قبل ان اكونها ! كنت دائماً مشغول فى تأمين مستقبل مادى, ارى صاحب العقار الذى كانت اسرتى تسكن فيه, و اسمع حديث الناس عنه و انه لذو حظ عظيم, فتمنيت ان اكون مثله عندى عقار و سيارة و كل رفاهية يتمتع بها الآثرياء, إننا ننشأ فى حياة نختار فيها صنعة تعجب الناس و نتمنى وضع مادى يعجب الناس, لم اسأل نفسى مرة واحدة: ماذا يعجبنى؟ ماذا يرضينى؟ او احتى أى نوع من النساء يروق لى؟ حتى سمعته يقول "فاظفر بذات الدين", انه صاحب درس الجمعة و اول درس فى عمرى السخيف, فى هذا الوقت بدأ ظهور نجم رجل الدين "البيزنس مان" او كما كان يقول الشيخ التاجر على نفسه: "انا رجل دنيا و دين", كان صديقاً لعمى, و له جمعية لرحلات الحج و العمرة,و شركة لإستيراد الأسمنت , كما حصل على توكيل لمطاحن أسمنت ألمانية, و هذه كانت بداية المعرفة به, إلتفيت به بعد خطبة الجمعة فى مسجده, و طلب منى ان اكون إستشارى فنى لهذا التوكيل, اعطانى محاضرة عن إعطاء القيادة للشباب, لا يهمه انى حديث التخرج و ليس لدى خبرة. المهم أنى "نبيه" كما وصفنى, أحسست فى هذه اللحظة ان الأحلام (التى هى أحلام المجتمع المادى) بدأت ان تتحقق, و بدأت رحلتى مع هذا الرجل, ستة أشهر من العمل و المراسلات حتى بدأنا فى إستيراد المطاحن, كل شئ على ما يرام, و الأمور تسير من حسن لأحسن, حتى جاء لى فى مرة يعرض على ان اتزوج ابنته "ذات الدين", وافقت على الفور كالمسحور, نعم.. كنت مسحور بما يقول و بما يفعل, فالخطاب الدينى مهيب, و كانت الليلة التى لن أنساها ابداً, ليلة الزفاف التى رأيت فيها العروس لأول مرة, و بكيت أيضاً لأول مرة, إنها دميمة جداً, لا عيب فى خلق الله, و لكن مجرد ان اتخيل إنها معى فى فراش واحد كان شئ مفزع بالنسبة لى, و لكنه كان واقع, رضيت بما حدث, و رضيت لمدة عام, رايت فيها لا مبالاة غريبة من زوجتى (الأولى), إنها لا تنطق, لا تبتسم, لا تحرك شيئاً فى المنزل, وقتها بين الصمت و الصلاة, كنت مشغولاً بالعمل, و طالما التوكيل بخير, و رصيد البنك ينمو, و الناس ترانى ناجح بمقايسهم, لا بأس إذن من الحياة, حتى حاولت زوجتى الإنتحار لسبب لم أكن أعلمه وقتها, و صارحتنى حماتى فى هذا الوقت انها مريضة نفسياً, و رفض شيخنا الجليل علاجها خوفاً من الفضيحة, و بما أن هذا كان رأيه, طبعاً كان رأيى انا الآخر , انا الذى تزوجها دون ان يعلم أى شئ عن مرضها, و لكنى علمت المرض الآخر , و هو العقم, فرأى الشيخ ان ننجب عسى أن يهديها الله و يرفع الإنجاب عنها البلاء و المرض,  خمس سنوات من العلاج قضيتها معها من طبيب لآخر, حتى حملت أخيراً, فى الوقت الذى عرض على فيه ابوها ان اشاركه فى التوكيل حتى نتمكن من زيادة النشاط و إستيراد ماكينات اكثر, وافقت كالمغيب عن الوعى, فمعه كنت مسير غير مخير, و بعد ان أخذ منى كل ما املك, كتب العقود كلها بأسمه, و انكر ما بيننا من شراكة, و كان التعليق على هذا الفعل المريب "انت مش واثق فيا و لا إيه؟" لم انطق و واصلت معه الحياة, حتى توفيت زوجتى و هى تلد إبنى الأول, و كأن الشركة بيننا انتهت بمجرد وفاة ابنته المريضة, فصلنى عن العمل بعد ان أخذ كل ما املك, و ترك لى الطفل لإنه لا يحمل إسمه, و وجدت نفسى فى ليلة "عاطل" بلا حتى مال, و اكتشفت انى كنت اعمل السنوات الماضية جليسة معاقين لإبنته, و اعتبر ان راتبى و مالى, جزء من ماله مدخر له, فما احقره من شيطان يدعى الدين و الدين برئ منه و من شركه !
كنت على شفا حفرة من الكفر, بعد ان اختل الرمز الدينى امامى, و لكن امى احتضنتنى من جديد, و جعلتنى اخرج من تلك المرارة بما اكتسبته من إيمان و مواظبة على الصلاة, و لكنى كرهت نظرة الناس لى, فبعضهم نظر إلى عطفاً, فأنا المضحوك عليه, و البعض ينظر لى بمنتهى الشماتة, فنجاحى الذى فاق حدود سنى فى ذلك الوقت جعلهم يقولون عنى "ذو حظ عظيم" و آه لو كنتم تعلمون !
ضاقت بى مصر بما رحبت, فقررت أن أسافر إلى فرنسا حيث لا وجهة و لا عمل, ساعدتنى أمى بذهبها, فطبعاً كنت فى ذلك الوقت لا أملك ثمن السيجارة التى لم تفارق يدى منذ ذلك الموقف العصيب حتى الآن, و كيف و لماذا اتركها و هى الوحيدة التى تحترق من أجلى؟
لم أكن انوى ان أعمل مهندساً, فقد كرهت كل شئ له علاقة بالماضى حتى مهنتى نفسها, فى البداية عملت كاشير فى متجر صغير رواده من فقراء العرب و المهاجرين, حتى تعرفت على أحدهم , مصرى الجنسية له شريك تونسى و كانا يبحثان عن شريك ثالث لإنشاء مكتب تشطيبات داخلية , وضعت ما تبقى معى من مال فى هذه الشراكة, كانت حصتى هى الأقل و لكنى عزمت ألا أُلدغ من الجحر مرة ثانية, فأنطلقت فى عمل مضنى و مذاكرة الفرنسية ليل نهار, كانت سنة بين خيبة و بصيص من الأمل, حتى بدأ المكتب يأخذ بعض المقاولات الصغيرة, و لكنها أدرت علينا ربحاً فى وقتها كان حافزاً للإستمرار, لم أشرب الخمر و لكنى هجرت الصلاة, و أعترف انى لم اشرب الخمر ليس عن عفة او دين و لكنى كنت احتاج لكل سنت من المال فى هذا الوقت العصيب, بينما شريكى المصرى و التونسى كانا يشربان الخمر حتى هذا الحادث الأليم عندما قاد المصرى السيارة و هو ثمل و قتل شخصين من بينهما الشريك التونسى الذى كان معه فى السيارة, و آخر فرنسى كان يقود دراجة بخارية, حادث جلل ان تتناول الغداء مع الرفاق, ثم تتناول العشاء وحيداً لأن منهما السجين الآن و الآخر فى رعاية الله !
طلب منى السجين المصرى ان أقف بجانبه فليس له الآن احد فى الدنيا غيرى, فالصلات مقطوعة بينه و بين أهله فى مصر, مارست واجبى فى الندالة بلا تقصير, لا أعلم لماذا تركته يضيع؟ أكان كرهى للبشر وصل لهذه الدرجة؟ كنت إذا رأيت طفلاً صغيراً لا ألاعبه او أحاول أضحاكه فدائماً كنت أقول لنفسى أن هذا الطفل سيكبر يوماً ليس ببعيد و سيصبح ذئب بشرى جديد, فلماذا الرفق به إذن؟
و بعد صدمة شريكى بى, طلب منى أن أتصل بصديقته الفرنسية لعله يأتى منها بخبر, و صدمنى حين طلب منى حصته بالشركة, و التى كانت هى الأكبر, و ليس معى سيولة, و ليس لدى عمل إذا أغلقت الشركة بسبب مستهتر سكير, فكانت الفكرة الشيطانية التى أوعذت بها إلى صديقته الفرنسية التى بالطبع وافقت على هذا العرض المغرى, مثلت عليه أنها ستقف بجانبه فى محنته و ستعمل فى الشركة مكانه, و بالفعل باع لها نصيبه عندما صدق كذبها, و أصبحت هى شريكتى بحصة المصرى, و لى حصة التونسى و حصتى, وأصبحت أنا الشريك الأكبر ! حاولت كثيراً ان أتخلص منها لكنى فشلت, حتى بدأت تطلب مالاً من الشركة, و هذا كافٍ بقتلى,فبدأت بتغيير سياستى معها, فحاولت أن أصادقها و إستجابت سريعاً, حتى أقمت علاقة معها, و بدأت تثق بى , و بالطبع كنت أخصم من الأرباح أمامها, و أكلت من نصيبها أكلاً, حتى أشتريت منها نصيبها فى الوقت الذى علمت أنها حامل, رفضت أن يكون لى منها إبن فلم يعجبنى المجتمع و لا الثقافة, لا سلطة على الأبناء و لا تقويم من جانب الآباء, بالإضافة إلى اننى لم أستطع التخلى عن البذرة الشرقية بداخلى, فرؤيتها فقط و هى تدخن كانت كفيلة بأن تبعدنى عنها أميالاً.
هى التى طلبت منى الزواج لإنها تريد الإحتفاظ بالطفل, و وعدتنى أنها ستحتشم و أن تتوقف عن التدخين, و لكنى كنت على علم بأن هذا الزواج لن يدوم و أننا سننفصل يوماً ما, فالمسألة مسألة شك, فقد باعت صديقها السابق من أجل المال, فليس لها آمان, تركتها ترحل, و بداخلها شيئاً منى لا أعرف عنه شئ حتى الآن.
لم أستطع البقاء فى فرنسا أكثر من سنواتى السبع الماضية, تأنيب ضمير..ربما, ذكريات سيئة..ربما, شركة أرباحها لا ترضى طموحى..ربما, أو انى أريد ان أعود الى مصر و أنا أذكر فرنسا و شركتى هناك لكى أثأر لكبريائى..ربما..ربما.
عدت إلى مصر أذكر نجاحى الذى بالغت في حجمه الطبيعى, فكان يكفى ان أذكر كلمات: شركة و فرنسا حتى يقول الناس عنى "ابن حنت" الذى لا تقهره الظروف و الآيام, و بعد زيارة خاطفة لم أعرف فيها إبنى الأول الذى يقول "بابا" لأبى و ليس لى, توجهت إلى الصين, و أنا أزهو بنفسى فقد نظر إلى الناس النظرة التى طالما تمنيتها.
  تعاقدت على مجموعة من لعب الأطفال و الملابس, و أصبحت واحداً من اول المستوردين من الصين إلى مصر, و كلما نظرت لنفسى رأيت لعبة صينية, أنيقة المظهر خاوية الجودة, عشر سنوات بين القاهرة و بيكين, أمارس ندالتى مع الجميع, لا أرى غير مصلحتى, لا أعترف غير بال "أنا" فى قاموسى, لا أعرف عن إبنى فى مصر شئ, و لا أعلم من الأساس نوع طفلى فى فرنسا, إحساس غريب فى راغبة عارمة للإنتقال إلى النظافة و النزاهة, لا أعلم هل أنا فى هذا الوقت, كان أمامى فى هذا الوقت مديرة مكتبى فى الصين, رأيت فيها المرأة النزيهة الناضجة, عرضت عليها الزواج المشروط بإعتناقها الإسلام, فأنا أرغب فى الرجوع إلى كل ما هو أصيل, كانت حياتى معها هادئة, رغم رفضها أن تترك العمل فى مكتب الصين, إلا إنى لم أشعر منها بتقصير فهى معى طول اليوم بالهاتف او على الإنترنت, و لكنه لم يكن كافٍ, لإنى أردت حينها أن أكمل معها حياتى فى منزل واحد و ننجب أطفالاً أعرفهم و يعرفونى, و ذهبت إليها و أفصحت لها عن رغبتى, فطلبت منى التفكير فى الأمر, و فى يوم و هى فى المكتب إستلمت خطاباً من البنك, فتحته و اندهشت من حجم رصيدها, فأنا أعلم أنها كانت معدمة قبل أن تعمل معى, راجعت بعض العقود و المشتريات فى الخمس سنوات الماضية بشكل عشوائى, فوجدت ان هناك تضارب فى المشتريات من الصين و الكميات المُصدرة إلى مصر, لابد إنها كانت تأخذ بضائع من مالى و تصدرها إلى دول أخرى لحسابها, خائنة و لا تستحق إلى الطرد من االشركة و المنزل, بكت و أقسمت أنها لم تسرق منذ زواجنا, و لكنى سكبت عليها لعناتى على نفسى و على البشر و طلقتها, و لا أعلم صحة ما أبلغتنى به بعد عام أن لها منى ولد!
فالناس ترى المال فقط لتحترم عقلك و مكانك, إنهم لا يرونى أباً لثلاثة أطفال لا أعلم عنهم شئ و لا أقدم إلا لكبيرهم المال, أُفٍ لى و لكم و لدنيا نعيشها, لا اريد من الحياة الآن غير أن أعمل صانع أحذية لا أملك غير قوت يومى إن ملكته, و لكن أكون راضٍ عن نفسى لا أخجل من البوح.

No comments:

Post a Comment